جهاد النكاح: حقيقته ونشأته

يُطلق مصطلح "جهاد النكاح" على ما وُصف بأنه ممارسة نساء ما يُشبه "الزواج المؤقت" مع مقاتلين ينتمون إلى جماعات مسلحة في مناطق النزاع، تحت ذريعة تقديم الدعم المعنوي لهم، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في عام 2013 على لسان الداعية المصري محمد سعيد رسلان خلال إحدى خطبه في محافظة المنُوفيّة شمال القاهرة بعد الاطاحة بنظام الاخوان المسلمين في مصر في صيف العام 2013 مخاطباً للاخوان المسلمين في مصر بذكر:
"اخترع الإخوان فكرة التفجيرات الجسديه لتحقيق غايتهم فى الجهاد .. عندهم رغبة فى الجهاد ولو كان جهاد النكاح ، أهو جهاد و السلام"،
بعد ذلك انتشر خبر من صحف عربية وايرانية في الأعوام 2013 و2014 على أنه "أجاز الداعية السعودي ناصر العمر للمجاهدين في سوريا والعراق جهاد النكاح مع محارمهم" دون الاستناد الى دليل.
وبعد ذلك تبين أنه مزيف وتم تكذيبه ببيان تم نشره لاحقاً على موقع طريق الإسلام وهيئة مكافحة الشائعات في السنوات 2013 و 2014. حيث تم ذكر بأنه:
"لم تكن الفتوى المكذوبة على الشيخ ناصر العمر (نكاح المحارم في الجهاد)، التي اختلقتها صحيفة موالية للنظام النصيري في سوريا كذبا وافتراءًا، لتستحق التعليق بشأنها، فضلا عن الرد عليها، لولا ما جاء من رسائل من متابعي الشيخ ومحبيه تطلب البيان بتكذيبها، إن من يعرف منهج الشيخ وما اطَّرد من علمه وفتاواه لا يخالجه الشك في أن تلك الفتوى المزعومة فتوى مكذوبة مختلقة، وما كان لهذه الكذبة وغيرها من الأكاذيب التي تروج من وقت لآخر أن تغمز من قناة الشيخ، أو تثير شكًا في قلب وعقل من يعرف الشيخ (ناصر العمر) وما تواتر من علمه وطريقته، التي يستن فيها -بحمد الله- بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وتابعيه وسلف الأمة، ويفتي بالفتاوى المؤصلة المبنية على الدليل من الكتاب والسنة".
ثم نُسب لاحقًا إلى الداعية السعودي محمد العريفي، الذي أشيع أنه أصدر فتوى تجيز هذا النوع من العلاقات للنساء، إلا أن العريفي في عام 2013 و 2017، أنكر لاحقًا أن يكون قد أصدر أي فتوى رسمية بهذا الشأن، مؤكداً في احدى خطبه الدينية ان ما نسب اليه حول جهاد النكاح "كلام باطل لا يقوله عاقل".
واتهم العريفي جهاز الاستخبارات السورية السابق هو من يقف وراء ربط اسمه بما عُرف بـ"فتوى جهاد النكاح".
كما أشار العريفي إلى أن بعض الصور والتغريدات المنسوبة إليه كانت مفبركة باستخدام برامج تعديل الصور، مثل “فوتوشوب”، وأنها تحتوي على أخطاء واضحة، مثل تجاوز عدد الأحرف المسموح بها في تغريدة على تويتر.
ولم نكتفِ بنفي العريفي فقط، بل قمنا باجراء بحث على نطاق واسع، لم نتوصل لأي مصدر يبين أنه هو من يقف خلف فتوى "جهاد النكاح".
صحيفة فرنسية تتهم النظام السوري
في عام 2013، نقل موقع العربية عن صحيفة "لوموند" الفرنسية ذكرت في عام 2013، أن جهاد النكاح الذي جرى الحديث عنه في سوريا غير موجود، وأن من اخترعه هو إعلام النظام السوري (النظام السابق)، في إطار حملته على الثوار بعد أن وصفهم سابقاً بالمتسللين من الخارج لنزع صفة الانتماء الوطني عنهم.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذا المفهوم ظهر إلى العلن للمرة الأولى في أواخر عام 2012 عبر "قناة الجديد" اللبنانية الموالية لدمشق، وعلى الفور تم استنساخه من قبل وسائل إعلامية موالية لنظام الأسد.
ويهدف "اختراع" هذه الفكرة وتناقلها من قبل الإعلام الموالي للنظام السوري (النظام السابق) إلى صدم الرأي العام الغربي، حسب ما جاء في "لوموند".
وتتابع الصحيفة قائلة إنه، وبهدف إعطاء مصداقية لهذا الأمر، تم نسبه إلى أحد الدعاة السعوديين المعروفين من خلال قرصنة حسابه على موقع "تويتر"، وقام الداعية على الفور بنفي كتبه التغريدات المتعلقة بالأمر.
وذكرت الصحيفة أنه وبعد نفي الداعية لإصداره فتوى تتيح جهاد النكاح، بدأت وسائل الإعلام التي تطرقت إلى الموضوع تشير إلى "فتوى مجهولة المصدر" تتيح جهاد النكاح، دون أن تقر بفكرة أن هذه الفتوى لا أساس لها من الصحة ولم تصدر من أحد البتة.
منذ ظهوره، تجاوز مصطلح "جهاد النكاح" كونه توصيفًا لحالة معينة أو لظاهرة اجتماعية بعينها، ليأخذ أبعادًا سياسية وإعلامية أوسع، فقد استُخدم في سياقات متعددة، لا سيما من قِبل بعض الحكومات ووسائل الإعلام المناهضة لتنظيم داعش، وذلك في إطار الحرب النفسية والدعائية المرتبطة بالصراعات المسلحة في المنطقة، خصوصًا خلال الحرب في سوريا.
استخدام رسمي للمصطلح
وقد ساهمت تصريحات رسمية في تعزيز انتشار المصطلح، مثل ما جاء على لسان وزير الداخلية التونسي الأسبق لطفي بن جدو، عام 2013، الذي تحدّث عن سفر عدد من النساء التونسيات إلى سوريا بغرض ما سماه "جهاد النكاح"، وعودتهن إلى البلاد وهنّ حوامل، وكان التأثير الإعلامي لهذه التصريحات واسعًا، وسرعان ما تحوّل المصطلح إلى عنوان دائم في التغطيات الصحفية والنقاشات العامة.
وزارة المرأة التونسية تنفي
وردا على ادعاء الوزير التونسي نفت وزيرة شؤون المرأة والاسرة التونسية، سهام بادي، وجود أي حالة "أي حالة مما يعرف بـ"جهاد النكاح" بالنسبة لفتيات تونسيات في سوريا.
مبينةً، إنّها لم تحصل على أي معلومة رسمية أو تقارير بشأن ذلك.
وقالت بادي في مؤتمر صحفي عام 2013، إن:
"وزارة المرأة بعثت لوزارة الداخلية برسائل رسمية للاستيضاح حول وجود تونسيات انتقلن إلى سوريا لممارسة ما يسمى بجهاد النكاح، لكنها لم تتلق أي ردّ رسمي من الوزارة".
المؤسسة الدينية التونسية تعلن
في عام 2013، صرح وزير الشؤون الدينية في تونس وقتها نور الدين الخادمي، بأن فتوى "جهاد النكاح" لا تلزم الشعب التونسي ولا مؤسسات الدولة.
وقال الوزير في تصريح لاذاعة "شمس إف إم" التونسية الخاصة:
"هذه الامور مرفوضة، هذه مصطلحات جديدة، ما معنى جهاد النكاح؟ الفتاوى لا بد ان تستند الى مرجعيتها العلمية والمنهجية والموضوعية، وأي شخص يفتي في الداخل او الخارج فتواه تلزمه ولا تلزم غيره من الشعب التونسي او من مؤسسات الدولة".
اتهام أخ الوزير التونسي وقناته بالترويج للمصطلح
الإعلامي (غسان بن جدو) شقيق الوزير التونسي صاحب تصريحات اتهام التونسيات بجهاد النكاح، كان قد استقال من قناة الجزيرة ليؤسس قناة الميادين عام 2011، التي اتهمتها احدى الإعلاميات التونسيات التي كانت تعمل في القناة أنه قد طُلب منها تسليط الضوء على "جهاد النكاح" والتركيز على كل ما يمت للملف السوري بصلة، وفقاً لما صرحت به في لقاء مصور لموقع الصدى عام 2013
وعلى الرغم من التداول الإعلامي الواسع لهذا المفهوم، فإن البحث في أصوله الفقهية والدينية يُظهر أنه لا يستند إلى أي مرجعية إسلامية معتمدة، فقد أجمعت غالبية المؤسسات الدينية والمراجع الإسلامية على أن "جهاد النكاح" لا يمثل أي شكل من أشكال الزواج المشروع في الإسلام، بل يُعد تشويهًا واضحًا ومقصودًا لمفاهيم الزواج والجهاد على حد سواء، كما نفت الهيئات الدينية وجود أي سند فقهي يدعم هذا النوع من الممارسات، معتبرةً أن استخدام الدين في تبرير مثل هذه الأفعال يُعدّ خروجًا عن مبادئه وأحكامه.
ممارسات موثقة تحت غطاء ديني
ورغم أن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية لم تستخدم مصطلح "جهاد النكاح" بشكل رسمي، إلا أن تقاريرها وثّقت انتهاكات جسيمة ارتكبتها جماعات مسلحة، خاصة تنظيم "داعش"، بحق النساء والفتيات في مناطق النزاع، من بينها الزواج القسري، الاغتصاب، والاستعباد الجنسي، والتلقيح والحمل القسري، والتحويل الديني القسري، خاصة في سوريا والعراق، وقد استُخدم الخطاب الديني أحيانًا لتبرير هذه الممارسات داخليًا بين عناصر التنظيم، وعلى الرغم من أن هذه الأفعال تتقاطع جزئيًا مع ما يُروّج له إعلاميًا تحت مصطلح "جهاد النكاح"، إلا أن استخدام هذا المصطلح ساهم في تبسيط الظاهرة وتشويه أبعادها، عبر خلط الدعائي بالواقعي، مما أدى إلى تضليل الرأي العام بشأن طبيعة تلك الجرائم وسياقاتها الحقيقية.
الإيزيديات ضحايا التبرير العقائدي
وفقًا لتقرير صادر عن "المركز العربي لدراسات التطرف"، تعرّضت النساء الإيزيديات على وجه الخصوص لجرائم شنيعة، شملت الاختطاف، البيع في أسواق النخاسة، والاغتصاب المنهجي، وذلك بهدف تعزيز التماسك بين المقاتلين وإنجاب جيل جديد يتبنّى فكر التنظيم، وقد تم فرض التحول الديني على الضحايا، ودمج شعارات دينية في هذه الممارسات لتبريرها أمام عناصر التنظيم.
وتواصلت هذه الانتهاكات حتى بعد انتهاء المعارك، كما وثّقت تقارير حقوقية استمرار استغلال النساء والأطفال في مخيمات مثل "الهول" و"روج"، حيث يتعرض السكان الأصغر سنًا للتلقين الأيديولوجي والاستغلال الجنسي من قبل بعض النساء المقيمات.
قيود داعش على نساء السُنة
وثّقت منظمة "هيومن رايتس ووتش" شهادات لنساء سنّيات فررن من مناطق كانت تحت سيطرة تنظيم داعش، تحدّثن فيها عن قيود صارمة فُرضت عليهن، من بينها منع الخروج من المنزل دون ارتداء النقاب ومرافقة رجل من الأقارب، مع التهديد بعقوبات مالية أو جسدية، هذه الممارسات ساهمت في تعميق عزلة النساء وتطبيع الانتهاكات ضدّهن، كما نقل التقرير روايات لست نساء فررن من منطقة الحويجة، أفدن بأن مقاتلي التنظيم احتجزوا نساء وفتيات عربيات سنّيات بشكل تعسفي، وتعرّضن لسوء المعاملة والتعذيب، إضافة إلى الزواج القسري، واعتبرت المنظمة هذه الروايات أولى الحالات الموثقة لانتهاكات ارتُكبت بحق نساء من العرب السنة في العراق.
يثير مصطلح "جهاد النكاح" إشكاليات تتعلق باستخدام الخطاب الديني في سياقات سياسية وإعلامية، وترويج روايات غير موثقة تحولت إلى أدوات دعائية في النزاعات المسلحة، ورغم غياب أي مرجعية فقهية معتمدة لهذا المصطلح، فقد ساهم تداوله في تضليل المتلقين.
تكشف هذه القضية الحاجة المستمرة إلى تدقيق المعلومات، وعدم الانجرار خلف الروايات غير المؤكدة، خاصة في سياق الصراعات حيث تختلط الحقائق بالدعاية.
الاستنتاج
جهاد النكاح: هو مصطلح مختلق لا يستند إلى أي أساس فقهي أو ديني، نُسب زورًا إلى العديد من الدعاة منذ عام 2013 ولغاية الآن، كما اتُّهم إعلام النظام السوري السابق بالترويج لهذا المصطلح خلال الحرب في سوريا آنذاك.
